لم يكن سوى...!
هناك على الكورنيش جلستُ ، أطالع الأمواج بارتطامها الشديد العنيف .....
غارقة بخيالى إلى هذا العالم الجميل ، والشمس فى الأفق تنوى الرحيل ، ومن بعيد بصرت هذا الصرح المهيب ، صرح أحاطته المياه من عدة جوانب ، وعليها انعكست صورته الخلابة ، والذى لم يكن سوى .....مكتبة الأسكندرية.
منظر خلاّب ، جذب القلوب قبل الأعين ، وملأ جوارحى بالفخر والإجلال.....
كنت أطالع القلعة من بعيد ، عندما جلس إلى جوارى شخص، توحى هيئته أنه جاوز الأربعين بقليل، كان أشيب الفودين ، عريض المنكبين ، أفطس الأنف ، واسع العينين أسودهما ، ممشوق القوام ....
لم ينبس ببنت شفة ، فقط تطلع إلى بتمعن ، ومن عينيه تألق بريق لامع .......
لم أوله أدنى إهتمام ، ولكنه ظل يحدق فى بشكل مبالغ ، وقسمات وجهه تحمل نظرة حنان ، ظل يحدق حتى ظننته تمثال قُدّ من حجر ، التفتُ إليه بعينىّ ، وأنا أنوى سبه ، ولكننى ما إن تمعنت فى وجهه ، حتى انحبست تلك الكلمة فى حلقى، ومعها انحبست تلك الشهقة ....... إن وجهه مألوف ، وواثقة أننى رأيته من قبل ، ولكننى لاأذكر أين ؟! ....
أين رأيته ومتى ؟! .......... لاأذكر .....
كل ما أذكره ، أننى رأيته من قبل ، بل أعرفه حق المعرفة ، وفى هذه اللحظة لاحظت أن الرجل غادر مقعده بينما كنت غارقة فى حيرتى وتساؤلاتى.....
فأسرعت أبحث عنه ، وأنا لاأعلم لماذا؟!....لماذا أبحث عنه ؟! ، ولكن شيئا ما بداخلى كان يدفعنى للبحث عنه ، شئ أجهله تماما....
وبصرته وسط الناس ، يسير الهوينى على الكورنيش ، يخفى يديه فى جيبى ّ سرواله، فأسرعت أحث خطاى لعلى ألحق به ، ولكننى ما إن اقتربت منه ، التفت إلىّ فجأة، ونظر لى بجانب عينيه ، ثم دار عقبيه وأكمل مسيرته .....
عبر الشارع بخطوات ثابتة ، وبصرته يدخل مبنى أشبه بعمارة صغيرة ذات طراز قديم ،وصعدت خلفه مستندة على الدرابزين ، أتسلل كاللص.....
سمعته يصفق الباب خلفه ، فصعدت ووقفت قبالة بابه ، وأنا مترددة فى طرقه ، ولكننى طرقته ويدىّ ترتجفان ، ولم تمر إلا ثوانى وفتح الباب ، ووقف يتطلع إلىّ بعينيه ، وبنفس البريق اللامع ..........
لم أكن أدرى ماذا أقول ؟! ، لقد عجز لسانى عن النطق ، وقطع هو هذا الصمت ، قائلا بصوت حنون :
_ كنتُ أنتظرك
ولم أنبس بحرف واحد ، فقط وقفت كالحجر الصوان ، فاستطرد قائلا :
_ تفضلى يا (ناهد)
وهوت الكلمة على نفسى كالصاعقة ، وزادت دهشتى ، وقلتُ بصوت مكتوم :
_ من أين عرف اسمى ؟! ، ومن يكون ؟! ، حتما إنه يعرفنى ، ويعرف عنى الكثير ، طالما يعرف اسمى ، وليس بعيد أنه يعلم أننى تبعته إلى هنا .....
وانتزعتنى إشارة يده من تفكيرى ، وأشار لى بالدخول ، وجلست على الأريكة ، بينما هو جلس على كرسى صغير ، حوّلت نظراتى عن عينيه ، فرحتُ أتأمل شقته بقلب مرتجف وعين زائغة ، فعن يمينى كانت مائدة صغيرة ، تكفى ثلاث أشخاص ، وعن يسارى استقر تليفزيون صغير على منضدة من الألوميتال، وأمامى استقرت صورة على الحائط ، و............
وشهقت بقوة ، عندما بصرت بعينىّ تلك المرأة ، والتى وقفت بجوار الرجل ، بفستانها الناصع البياض ، إنها ......إنها أمى .
التفتُ إلى الرجل ، والذى ظل صامتا إلا من ابتسانة صغيرة على ثغره.......
احتضننى بين ذراعيه بقوة ، وضمنى إلى صدره فى حنان ....
وعندئذ أدركت أين رأيته ، وأدركتُ أنه لم يكن سوى ..........!
تمت بحمد الله
العدد القادم : حياة بلا حرمان