يوماً ما سأعود
يمشي في تلك الأزقة هائماً على وجهه لا يدري إلى أين تأخذه الحياة . منظره , تشمئز منه لأول وهلة فهو شاب ظهرت عليه ملامح الشيخوخة. بدت على محياه كل ملامح الهموم والأحزان , الفقر والعوز ظاهران متمثلان في ملابسه التي لم يتبق منها إلا ما يستر عورته , تلك الملابس التي يذكر أن جاره أهداه إياها في عيد ميلاده.
يمشي فتحسبه من التخاذل والبطء كأنه لا يمشي , حتى إذا لمح سيارة تقطع بسرعة ذلك الزقاق الذي يمشي فيه.
ارتمى أمامها بسرعة واستوقفها , فرَق لحاله صاحب السيارة وأمر سائقه أن يعطيه بعض المال عله يستر نفسه ويقيها من حر وبرد.
كما ظهرت بسرعة إختفت أيضاً تلك السيارة بسرعة كأنها شبح...!!
فرح لوهلة كثيراً لكنه سرعان ما تذكر الديون التي عليه فأطبق في صمت مخيف .
الدنيا هادئة ,لا تكاد ترى مخلوقا في تلك الساعة المتأخرة إلا هذا الرجل .
خطوات خطاها متثاقلا عله يجد محسناً آخراً , شارع ثم حارة , أطلال حي لاحت له يذكر ملامحها من بعيد لكنه لا يذكر تماما ما هي أو ماذا هناك؟؟.
سار حتى وصل لذلك الحي , يذكر أنه كان يستحي من الناس أو عندما يرى أحداً من رفاقه ولكن الآن , فقد سقط كما يقولون ماء وجهه.
أمامه قصر منيف وقد وصل للتو صاحبه الذي ينزل من سيارته ليدخل بيته , جمع قواه ليلحق به قبل أن يدخل منزله .
كلمات العطف و الاستشفاق لم تجدِ هذه المرة. فقد طلب ذلك الرجل "صاحب الياقة البيضاء"كما أعتاد تسميتهم من حراسه أن يطردوه , حاول أن يتخلص منهم ولكن هيهات فيده يبدو أنها نسيت أو تناست كيف تضرب أو تحارب.
ألقي في ذلك الشارع خائب الأمل مكسور الخاطر , كأنه حيوان بلا مأوى . الإعياء والتعب ينهشان في جسده النحيل الذي إن شئت أسميته جسد.
رأى تلك البحيرة التي تنتصف ذلك الميدان التي رغم جمالها أحس أنها تبتسم له ابتسامة صفراء كتلك التي حفظها عن ظهر قلب .
المكان حوله يبدو مألوفاً لكنه لم يعد يذكر , مشي أو تماشى لتلك البحيرة عله يروي عطشه. رأى كيف هي راكدة كحياته لكن يميزها النقاء فقد عكست وجهه الذي أهانه الزمن لدرجة تمنى أنه رحل عن الحياة قبل أن يراه في تلك اللحظة .
مرت أمامه حياته كأنها شريط سينمائي, خطوط عريضة يتذكرها بصعوبة, أسماء وكلمات مبهمة عمر , عثمان , المعتصم ,صلاح , أسد الدين , خلافة , دين وهوية.
نفض رأسه عله يرى لتلك العناوين بقية لكن يبدو أن اهتزازته حركت سطح الماء فلم يعد يرى شيئاً.
حاول التذكر مراراً لكن يبدو أن أثر السنون العجاف الأخيرة أثرت حتى على ذاكرته.
الشرطة الليلية تنشط في ذلك الحي لتنظفه من اللصوص أو حتى أولائك المتسولين الذين يأتون لذلك الحي الراقي.
حملوه دونما هوادة أو شفقة فصرخ بكل قوته :
-دعوني فأنا عمر..!
-من.....؟؟؟!!
-علي.!
-علي من ؟؟..!!
-أقصد أنا المعتصم
-كل هذا اسمك ؟؟!!
-لا بل أنا صلاح الدين , نعم أنا صلاح الدين ...!!
لم يتمالك ذلك الشرطي نفسه من الضحك هذه المرة فأطلق ضحكة شقت صمت الليل المخيم.
تحركت العربة وهو ينظر من خلف القضبان , أحس أنه ينتمي لذلك المكان , هز جيبه فقد كان فيه ذلك المال و تنهد قائلاً يواسي نفسه : يوماً ما سأعود...!!
__________________