في بعض الأحيان تزل تلك النفس المؤمنة فتضعف..و لا يكون ذلك إلا بعد ان تبتعد و لو قليلاً عن منهل تلك القوة..و لكن ما تلبث إلا أن تعود..مستغفرة تائبة ترجو رحمة ربها الغفور الرحيم الذي قال: ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً).. فتعود أقوى مما كانت لأنها استشعرت معنى أن تفقد تلك اللذة الإيمانية و لو للحظات!!!
و المؤمن بهذه الحياة الإيمانية غريب في نفسه..غريب بين أهله و إخوانه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إن الإسلام بدأ غريباً و سيعود غريباً فطوبى للغرباء،قال: و من الغرباء؟ قال: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)حديث حسن..
و كلما زاد ذلك الإيمان زادت درجة الغربة..حتى يجد المؤمن نفسه في عالم آخر..فهو مع الناس بجسده و في ذلك العالم بقلبه..قلب متعلق بربه..يراقبه بنور إيمانه.. و يلجأ إليه مع كل نفس من أنفاسه..يفر إليه كلما ضعف إيمانه..فإن سبح بلسانه فالقلب ساكن لعظمته..و إن ترك شيئاً لوجهه فالوجد سابح بلذة طاعته.. و إن عمل صالحاً فالفؤاد راضخ لأمره و نهيه في كل حب و اطمئنان.
و هو بذلك في حصن ربه..يحميه بفراره إليه ممن يتربص به و يكييد له..يقيه بطاعته من كل ما يعرض له من فتن في دينه و إيمانه..يحميه أولاً من شر نفسه و من شر مخلوقاته..فهو بذلك قد احتمى بربه بعد أن اكتسب بقربه منه مصلاً ذاتياً يصرف عنه كل مايعرض لدينه أو يهزه..و لم يأت ذلك المصل إلا بعد أن أيقن أنه لا حول و لا قوة له إلا بربه..فهو الضعيف بنفسه القوي بربه..و هو الذليل بذاته العزيز بدينه..و هو بذلك في أمس الحاجة إلى ربه لينصره و يثبِته أمام فتن الدنيا و ابتلائاتها..فإن فتن هذا الزمان قد تشربت ماتشربت من القلوب فسكنتها..فلم تعد تفرق بين الحق و الباطل..قال حذيفة: لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك!!إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق و الباطل.
ولم يكن ذلك إلا بعد أن ابتعدت القلوب عن منهل قوتها و عزتها..وانشغلت بدنياها الزائلة الفانية..فنزلت همتها إلى التراب بعد أن كانت تحلق في السماء..و لكن في خضم نيران الفتنة المترامية و شعاراتها المتصاعدة تبقى فئة صامدة ثابتة تمثلت في حديث النبي صلى الله عليه و سلم:(يأتي عليكم زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر)..تلك الفئة عانت و مازالت تعاني ألم الجمر و حرقته..ومع ذلك صمدت و ثبتت..فكلما سولت لها أنفسها أن ترمي ذلك الجمر تذكرت حرقة الحياة ومرارتها بدونه!!فزادها ذلك ثباتاً و صموداً..فهاهي ترى تلك الجراح الغامرة في قبضتها و لكن تأبى إلا و الثبات,, إلا و الانتصار!!فالإنتصار على النفس هو الانتصار الحقيقي لتلك القلوب التي أشربت معين الحياة الطيبة بالقرب من الله!!قال تعالى(من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) إنها مشاعر إيمانية من نوع فريد..لا يطيق القلم تسطيرها..و لا تستطيع الألسنة و صفها..إنها مشاعر القوة و العزة في وقت الضعف و الذلة..مزيج غريب يناسب تلك الغربة و يحاكيها..غربة تستحق المعايشة و التجربة..فلنسمو بأنفسنا معها متسلحين بقوله تعالى: ( معي ربي سيهدين)..
و نهاية المطاف الكل يعرفها.. نعيم دائم بعد عناء السفر الطويل.. وراحة أبدية مع أول قدم توضع في جنات عدن..
في هذه اللحظة توضع نقطة النهاية..نهاية الصبر و التحمل.. نهاية الصراع و الجهاد..نهاية لها مصيران لا ثالث لهما..إماسعادة أبدية..و إما شقاء دائم..فلنكن من أبطال السعادة الأبدية..سعادة لا شقاء بعدها أبدا!!!